فصل: فصل صَلَاةِ التَّطَوُّعِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل صَلَاةِ التَّطَوُّعِ

وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ التَّطَوُّعَ هل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ ما يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ وفي بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ وفي بَيَانِ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إذَا شَرَعَ في التَّطَوُّعِ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فيه وإذا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ في التَّطَوُّعِ وَلَا الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ وَجْهُ قَوْلِهِ إن التَّطَوُّعَ تَبَرُّعٌ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ وإذا لم يَجِبْ الْمُضِيُّ فيه لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ

وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عن الْإِبْطَالِ وذلك ‏[‏وذا‏]‏ طريقة ‏[‏بلزوم‏]‏ الْمُضِيِّ فيها وإذا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَاجِبَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كما في الْمَنْذُورِ وَالْمَفْرُوضِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ كما ذَكَرَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِأَنَّا نَقُولُ نعم قبل الشُّرُوعِ وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَقَدْ صَارَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ وهو صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عن الْبُطْلَانِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مع الْإِمَامِ وهو يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ في الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ دخل معه فيها يَنْوِي التَّطَوُّعَ فَهَذَا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى أو لم يَكُنْ له نِيَّةٌ أَصْلًا أو نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَسْقُطُ عنه وَتَنُوبُ هذه عن قَضَاءِ ما لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن ما لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ صَارَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ كَالصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فَلَا يَتَأَدَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى وَلَنَا أَنَّهُ لو أَتَمَّهَا حين شَرَعَ فيها لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ فَكَذَا إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي لِأَنَّهُ ما الْتَزَمَ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وقد أَدَّاهَا وَإِنْ نَوَى تَطَوُّعًا آخَرَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَذُكِرَ في زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كان دَيْنًا عليه بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَنُوبُ هذا الْمُؤَدَّى عنه بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ ما الْتَزَمَ في الْمَرَّتَيْنِ إلَّا أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وقد أَدَّاهَا وَالله أعلم‏.‏

ثُمَّ الشُّرُوعُ في التَّطَوُّعِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ الشُّرُوعُ في التَّطَوُّعِ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ حتى لو قَطَعَهَا لَا شَيْءَ عليه عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْطَعَ وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كما وَجَبَتْ وإذا قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَأَمَّا الشُّرُوعُ في الصَّوْمِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَغَيْرُ مُلْزِمٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رحمهما الله تعالى وَعِنْدَهُمَا مُلْزِمٌ فَهُمَا سَوَّيَا بين الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَجَعَلَا الشُّرُوعَ فِيهِمَا مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ لِكَوْنِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَجَعَلَ الشُّرُوعَ فِيهِمَا غير مُلْزِمٍ وأبو حَنِيفَةَ فَرَّقَ وَالْفَرْقُ له من وُجُوهٍ أَحَدُهَا ما لَا بُدَّ له من تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ ما تَرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْكُلِّ فيه على الْبَعْضِ كَالْمَاءِ فإن مَاءَ الْبَحْرِ يُسَمَّى مَاءً ‏(‏وَقَطْرَةٌ منه تُسَمَّى مَاءً‏)‏ وَكَذَا الْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَكُلُّ مَائِعٍ وما تَرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ منه اسْمُ الْكُلِّ كالسنجبين ‏[‏كالسكنجبين‏]‏ لَا يُسَمَّى الْخَلَّ وَحْدَهُ وَلَا السُّكْرَ وَحْدَهُ سكنجبينا ‏[‏سكنجيبا‏]‏ وَكَذَا الْأَنْفُ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى وَجْهًا وَلَا الْخَدُّ وَحْدَهُ وَلَا الْعَظْمُ وَحْدَهُ يُسَمَّى آدَمِيًّا ثُمَّ الصَّوْمُ يَتَرَكَّبُ من أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ اسْمُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةُ تَتَرَكَّبُ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهِيَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَلَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ وَمِنْ هذا قال أَصْحَابُنَا إنَّ من حَلَفَ لَا يَصُومُ ثُمَّ شَرَعَ في الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ أن لَا يُصَلِّي فما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثُ وإذا تَقَرَّرَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ أنه نَهْيٌ عن الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ بَاشَرَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ وَنَهَى عن الصَّلَاةِ فما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يُبَاشِرْ منهيا فما ‏[‏فيما‏]‏ انْعَقَدَ انْعَقَدَ قُرْبَةً خَالِصَةً غير مَنْهِيٍّ عنها فَبَعْدَ هذا يقول بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وهو في الصَّوْمِ مَنْهِيٌّ فَفَسَدَ في نَفْسِهِ فلم يَصِرْ سَبَبَ الْوُجُوبِ وفي الصَّلَاةِ ليس بِمَنْهِيٍّ فَصَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وإذا تَحَقَّقَ هذا فَنَقُولُ وُجُوبُ الْمُضِيِّ في التَّطَوُّعِ لِصِيَانَةِ ما انْعَقَدَ قُرْبَةً وفي باب الصَّوْمِ ما انْعَقَدَ انْعَقَدَ مَعْصِيَةً من وَجْهٍ وَالْمُضِيُّ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ‏.‏

وَالْمُضِيُّ لو وَجَبَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ ما انْعَقَدَ وما انْعَقَدَ عِبَادَةٌ وهو مَنْهِيٌّ عنه وَتَقْرِيرُ الْعِبَادَةِ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبٌ وَتَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَصِيَانَتُهَا مَعْصِيَةٌ فَالصِّيَانَةُ وَاجِبَةٌ من وَجْهٍ مَحْظُورَةٌ من وَجْهٍ فلم تَجِبْ الصِّيَانَةُ عِنْدَ الشَّكِّ وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ على ما هو الْأَصْلُ وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا هو عِبَادَةٌ وَبِمَا هو مَعْصِيَةٌ وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مُمْكِنٌ‏.‏

وَإِيجَابُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فلم يَجِبْ الْمُضِيُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ فَأَمَّا في باب الصَّلَاةِ فما انْعَقَدَ انْعَقَدَ عِبَادَةً خَالِصَةً لَا حَظْرَ فيها فَوَجَبَ تَقْرِيرُهَا وَصِيَانَتُهَا ثُمَّ صِيَانَتُهَا وَإِنْ كانت بِالْمُضِيِّ وَبِالْمُضِيِّ يَقَعُ في الْمَحْظُورِ لكن ‏[‏ولكن‏]‏ لو مَضَى تَقَرَّرَتْ الْعِبَادَةُ وتقرير ‏(‏العبادة‏)‏ وَاجِبٌ وما يَأْتِي بِهِ عِبَادَةٌ وَمَحْظُورٌ أَيْضًا فَكَانَ مُحَصِّلًا لِلْعِبَادَةِ من وَجْهَيْنِ وَمُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ من وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْعِبَادَةِ وَلَوْ امْتَنَعَ عن الْمُضِيِّ امْتَنَعَ عن تَحْصِيلِ ما هو مَنْهِيٌّ وَلَكِنْ امْتَنَعَ أَيْضًا عن تَحْصِيلِ ما هو عِبَادَةٌ وَأَبْطَلَ الْعِبَادَةَ الْمُتَقَرِّرَةَ وَإِبْطَالُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْمُضِيُّ لِلصِّيَانَةِ أَوْلَى من الِامْتِنَاعِ فلزمه ‏[‏فيلزمه‏]‏ الْمُضِيُّ فإذا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَمِنْهُمْ من فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال إنَّ النَّهْيَ عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ وهو خَبَرُ الْوَاحِدِ وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في صِحَّتِهِ وَوُرُودِهِ فَكَانَ في ثُبُوتِهِ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ وما كان هذا سَبِيلُهُ كان قَبُولُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ في حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ على من أَفْسَدَ بِالشُّرُوعِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ ما وَرَدَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عن الصَّوْمِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَتَلَقَّتْهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بِالْقَبُولِ فَكَانَ النَّهْيُ ثَابِتًا من جَمِيعِ الْوُجُوهِ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ فلم يَجِبْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ ذَكَرَ هذه الْفُرُوقَ وَأَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ وهو أَنَّ الصَّوْمَ وُجُوبُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ وهو فِعْلٌ من الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عنه فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوُجُوبُهَا بِالتَّحْرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلٌ وَلَيْسَتْ من الصَّلَاةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ وَالله أعلم‏.‏

غير أَنَّهُ لو أفسد ‏[‏أفسدها‏]‏ مع هذا وَقَضَى في وَقْتٍ آخَرَ كان أَحْسَنَ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلُ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا وَهَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يؤدي خَالِيًا عن اقْتِرَانِ النَّهْيِ بِهِ وَلَكِنْ لو صلى مع هذا جَازَ لِأَنَّهُ ما لَزِمَهُ إلَّا هذه الصَّلَاةُ وقد أَسَاءَ حَيْثُ أَدَّى مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ‏.‏

وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كما وَجَبَتْ فَيَجُوزُ كما لو أَتَمَّهَا في ذلك الْوَقْتِ ثُمَّ الشُّرُوعُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبَ الْوُجُوبِ إذَا صَحَّ فَأَمَّا إذَا لم يَصِحَّ فَلَا حتى لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ على غَيْرِ وُضُوءٍ أو في ثَوْبٍ نَجِسٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَكَذَا القارىء إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أو في صَلَاةِ امْرَأَةٍ أو جُنُبٍ أو مُحْدِثٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّ شُرُوعَهُ في الصَّلَاةِ لم يَصِحَّ حَيْثُ اقْتَدَى بِمِنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا له وَكَذَا الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ حتى لو شَرَعَ في الصَّلَاةِ على ظَنِّ أنها عليه ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها لَيْسَتْ عليه لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَلَوْ أَفْسَدَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وفي باب الْحَجِّ يَلْزَمُهُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مَعْلُومًا كان أو مَظْنُونًا وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ في كتاب الصَّوْمِ إنْ شَاءَ الله ‏[‏لله‏]‏ تَعَالَى‏.‏

فصل بَيَانِ مِقْدَارِ ما يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ

وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ ما يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ من رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عن أَصْحَابِنَا إلَّا بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عنه أَنَّهُ قال فِيمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا قَضَى أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ وقال يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَرَوَى بِشْرُ بن أبي الْأَزْهَرِ عنه أَنَّهُ قال فِيمَنْ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذلك الْعَدَدُ وَإِنْ كان مِائَةَ رَكْعَةٍ وَرَوَى غَسَّانُ عنه أَنَّهُ قال إنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك لم يَلْزَمْهُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ ما تَنَاوَلَهُ وَإِنْ كَثُرَ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ أبي الْأَزْهَرِ عنه أَنَّ الشُّرُوعَ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ ما تَنَاوَلَهُ كذا بِالشُّرُوعِ وَجْهُ رِوَايَةِ غَسَّانَ عنه أَنَّ ما وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً على مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من الْعَبْدِ دُونَ ما وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَذَا لَا يَزِيدُ على الْأَرْبَعِ فَهَذَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ الشُّرُوعِ ما ثَبَتَ وَضْعًا بَلْ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ المؤدى عن الْبُطْلَانِ وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِتَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِصِيغَتِهِ وَضْعًا فَيَتَقَدَّرُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ ما تَنَاوَلَهُ السَّبَبُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَنَقُولُ نعم لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ما وُجِدَ الشُّرُوعُ فيه ولم يُوجَدْ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَجِبُ وَلِأَنَّهُ ما وُضِعَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوُجُوبُ لِمَا ذَكَرْنَا من الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ الشَّفْعِ الثَّانِي بِخِلَافِ النَّذْرِ فإنه الْتَزَمَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ ما الْتَزَمَ وَكَذَا الْجَوَابُ في السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فيها إلَّا رَكْعَتَيْنِ حتى لو قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ قَضَى أَرْبَعًا في كل مَوْضِعٍ يَقْضِي في التَّطَوُّعِ أَرْبَعًا وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ من مَشَايِخِنَا اخْتَارَ قَوْلَ أبي يُوسُفَ فِيمَا يؤدى من الْأَرْبَعِ منها بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الْأَرْبَعُ قبل الظُّهْرِ‏.‏

وقال لو قَطَعَهَا يَقْضِي أَرْبَعًا وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ فَانْتَقَلَ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وهو الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ من وَجَبَ عليه رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ على قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ ويبنيهما ‏[‏وبينهما‏]‏ على التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عليه إتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً له عن الْبُطْلَانِ وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ على قَصْدِ الْأَدَاءِ بِنَاءً منه الشَّفْعُ الثَّانِي على التَّحْرِيمَةِ الْأَوْلَى وَأَمْكَنَ الْبِنَاءُ عليها لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ أنها تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ وَيَلْزَمُهُ في هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ الْقِرَاءَةُ كما في الْأُولَيَيْنِ لأن كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الْمُتَنَفِّلَ إذَا قام إلَى الثالثة ‏[‏الثالث‏]‏ لِقَصْدِ الْأَدَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِحَ فَيَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كما يَسْتَفْتِحُ في الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ هذا بِنَاءُ الِافْتِتَاحِ وكل رَكْعَتَيْنِ من النَّفْلِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ لَكِنْ بِنَاءً على التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ الْمَسْنُونِ فيه وَلَوْ صلى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ ليس له ذلك لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَوَقَعَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صلى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كان يَقَعُ سَهْوُهُ في وَسَطِ الصَّلَاةِ‏.‏

وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلَّلٌ في الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عن الْعَمَلِ في هذه الْحَالَةِ أو حَكَمَ بِعَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ السُّجُودِ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إذ ‏[‏والضرورة‏]‏ الضرورة في حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِهَا فَظَهَرَ بَقَاءُ التَّحْرِيمَةِ أو عَوْدُهَا في حَقِّهَا لَا في حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى وَلَا ضَرُورَةَ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَيَعْمَلُ التَّسْلِيمُ عَمَلَهُ في التَّحْلِيلِ وكان الْقِيَاسُ في الْمُتَنَفِّلِ بِالْأَرْبَعِ إذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ لَمَّا كان صَلَاةً على حِدَةٍ كانت الْقَعْدَةُ عَقِيبَهُ فَرْضًا كَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ من الْفَرَائِضِ إلَّا أَنَّ في الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَمَّا قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل الْقَعْدَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا صَلَاةً وَاحِدَةً شَبِيهَةً بِالْفَرْضِ وَاعْتِبَارُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ مَشْرُوعٌ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَاصِلَةً بين الشَّفْعَيْنِ وَالْخَاتِمَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ فَأَمَّا الْفَاصِلَةُ فَوَاجِبَةٌ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ في التَّطَوُّعِ وَقَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ فِيهِمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ ولم نَجْعَلْ هذه الصَّلَاةَ صَلَاةً وَاحِدَةً في حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا صَارَتْ فَرْضًا لِغَيْرِهَا وهو الْخُرُوجُ فإذا قام إلَى الثَّالِثَةِ وَصَارَتْ الصَّلَاةُ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لم يَأْتِ أَوَانُ الْخُرُوجِ فلم تَبْقَ الْقَعْدَةُ فَرْضًا فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ رُكْنٌ بِنَفْسِهَا فإذا تَرَكَهَا في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَسَدَ فلم يَصِحَّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عليه وَعَلَى هذا قالوا إذَا صلى التَّطَوُّعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اعْتِبَارًا لِلتَّطَوُّعِ بِالْفَرْضِ وهو صَلَاةُ الْمَغْرِبِ إذَا صَلَّاهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ما اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ فَسَدَتْ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ ما قَبْلَهَا وَلَوْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فتجوز ‏[‏فيجوز‏]‏ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الْأَرْبَعِ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْفَرِيضَةِ وَلَيْسَ في الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَعُودُ الْأَمْرُ فيه إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالله أعلم‏.‏

ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الذي اتَّصَلَ بِهِ الْمُفْسَدُ دُونَ الشَّفْعِ الذي مَضَى على الصِّحَّةِ حتى لو صلى أَرْبَعًا فَتَكَلَّمَ في الثَّالِثَةِ أو الرَّابِعَةِ قَضَى الشَّفْعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَفَسَادُ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَفَسَادُ الْبَعْضِ يُوجِبُ فَسَادَ الْكُلِّ وَلَوْ اقْتَدَى الْمُتَطَوِّعُ بمصلى الظُّهْرِ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا أو اقْتَدَى بِهِ في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَمَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ سِتًّا لم يَلْزَمْهُ رَكْعَتَانِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لم يُوجَدْ في الرَّكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا وُجِدَ في الظُّهْرِ وَهِيَ أَرْبَعٌ ولم يُوجَدْ في حَقِّ الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُلْزِمُ شيئا وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فصلى رَكْعَتَيْنِ فصلاتُهُ تَامَّةٌ لِأَنَّ الظُّهْرَ في حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الزِّيَادَةِ لَغْوًا هذا إذَا أَفْسَدَ التَّطَوُّعَ بِشَيْءٍ من أَضْدَادِ الصَّلَاةِ في الْوَضْعِ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ صلى للتطوع ‏[‏التطوع‏]‏ أَرْبَعًا ولم يَقْرَأْ فِيهِنَّ شيئا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَهِيَ من الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِثَمَانِ مَسَائِلَ وَالْأَصْلُ فيها أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَتَى فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَإِنْ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَاهُمَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ في كل شَفْعٍ من النَّفْلِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا فَكَمَا يَفْسُدُ الشَّفْعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَاهُمَا لِفَوَاتِ ما هو رُكْنٌ كما لو تَرَكَ الرُّكُوعَ أو السُّجُودَ إنه لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بين التَّرْكِ في الرَّكْعَتَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا كَذَا هذا وَصَارَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ في الْإِفْسَادِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ سَوَاءً فإذا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لم تَبْقَ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّهَا تَبْقَى لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فإذا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَا تَبْقَى هِيَ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي لِعَدَمِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسَادُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ القراءة لكون الْقِرَاءَةِ رُكْنًا لكن ‏[‏ولكن‏]‏ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّهَا ما عُقِدَتْ لِهَذَا الشَّفْعِ خَاصَّةً بَلْ له وللشفع ‏[‏الشفع‏]‏ الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَرَأَ يَصِحُّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عليه فإذا لم تَبْطُلْ التَّحْرِيمَةُ صَحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ هو أَيْضًا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فيه وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلتَّحْرِيمَةِ مع بُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كما إذَا تَرَكَ رُكْنًا آخر ‏[‏آخرا‏]‏ أو ‏[‏وتكلم‏]‏ تكلم أو أَحْدَثَ عَمْدًا لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ بين الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَجْعَلَهَا كُلَّهَا عِبَادَةً وَاحِدَةً فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كما قال مُحَمَّدٌ غير أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا عَلِمَ فَسَادَ الشَّفْعِ بِيَقِينٍ لِتَرْكِ الرُّكْنِ بِيَقِينٍ وأما إذَا قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لم يَعْلَمْ يَقِينًا بِفَسَادِ هذا الشَّفْعِ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كان يقول بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنْ إنَّمَا عَرَفْنَا فَسَادَهُ بِدَلِيلٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ قَوْلَهُ غير أَنَّا عَرَفْنَا صِحَّةَ ما ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَفَسَادَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فلم يحكم ‏[‏نحكم‏]‏ بِبُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى دَارَ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كان الِاحْتِيَاطُ في الْحُكْمِ بِفَسَادِهِ لِيَجِبَ عليه الْقَضَاءُ وَبِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِيَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي لِيَجِبَ عليه الْقَضَاءُ بِوُجُودِ مُفْسِدٍ في هذا الشَّفْعِ أَيْضًا إذَا عَرَفْت هذا الْأَصْلَ فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأَرْبَعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ‏(‏رحمهم الله تعالى‏)‏ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قد بَطَلَتْ بِفَسَادِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه قَضَاءُ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَقِيَتْ وَإِنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا فَيَجِبُ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ جميعا‏.‏

وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ أو قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَحَسْبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ من هذا الشَّفْعِ فَبَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِعَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِكَوْنِ الْفَسَادِ غير ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَصَحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وهو الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فَأَمَّا الشَّفْعُ الثَّانِي فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى صَلَاةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فيه قد صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وقد وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا فَصَحَّ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَمَّا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ لم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فلم تَكُنْ صَلَاةً فلم ‏[‏فلا‏]‏ يَجِبُ إلَّا قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ‏(‏رحمهم الله تعالى‏)‏ فَلِأَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ ليس بِصَلَاةٍ لِانْعِدَامِ التَّحْرِيمَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَإِنْ كان صَلَاةً لَكِنَّهُ بَنَاهُ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وإنها انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فيها الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ وَلَوْ قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَذَكَرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ مع مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَلَوْ قَرَأَ في إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ وَلَوْ قَرَأَ في الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْكُلِّ وَكَذَا لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَعَدَ بين الشَّفْعَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ‏.‏

وَلَا تَتَأَتَّى هذه التَّفْرِيعَاتُ عِنْدَهُ وَلَوْ كان خَلْفَهُ رَجُلٌ اقْتَدَى بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إمَامِهِ يَقْضِي ما يَقْضِي إمَامُهُ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا وَلَوْ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي وَمَضَى الْإِمَامُ في صَلَاتِهِ حتى صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَرَأَ في الْأَرْبَعِ كُلِّهَا وَقَعَدَ بين الشَّفْعَيْنِ فَإِنْ تَكَلَّمَ قبل أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لم يَلْتَزِمْ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالشُّرُوعِ ولم يَشْرَعْ فيه وَإِنَّمَا وُجِدَ منه الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بِالْإِفْسَادِ لَا غَيْرُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قبل أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّى ما الْتَزَمَ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ وَأَمَّا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي لم يذكر هذه الْمَسْأَلَةَ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ عِصَامُ بن يُوسُفَ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عليه قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الأجل الزَّاهِدُ صَدْرُ الدِّينِ أبو الْمُعِينِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا الْجَوَابُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمهما الله تعالى لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هذا كُلَّهُ صَلَاةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لم يَحْكُمَا بِفَسَادِهَا بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَقِيَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً على حِدَةٍ حتى حُكِمَ بِافْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَانَ هذا الْمُقْتَدِي مُفْسِدًا لِلشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَا غَيْرُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لَا غَيْرُ‏.‏

فصل بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ

وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا في النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا رحمهم الله تعالى وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جميعا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بن رُوَيْبَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَلِأَنَّ في التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ وَلِهَذَا قال في الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَلَنَا ما رَوَى ابن مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يُوَاظِبُ في صَلَاةِ الضُّحَى على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَوْلَى من الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بن رُوَيْبَةَ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ على الْبَدَنِ وَسُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فقال أَحْمَزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا على الْبَدَنِ وَأَمَّا في اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمهما الله تعالى احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كل رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وما أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْباب مُرَادًا بِهِ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ في التَّرَاوِيحِ قد ‏[‏فظهر‏]‏ ظهر مَثْنَى مَثْنَى من لَدُنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إلَى يَوْمِنَا هذا فَدَلَّ أَنَّ ذلك أَفْضَلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن قِيَامِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في لَيَالِي رَمَضَانَ فقالت كان قِيَامُهُ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً لِأَنَّهُ كان يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كان يُوتِرُ بِثَلَاثٍ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أنها سُئِلَتْ عن ذلك فقالت وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذلك ثُمَّ ذَكَرَتْ الحديث‏.‏

وَكَلِمَةُ كان عِبَارَةٌ عن الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ وما كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوَاظِبُ إلَّا على أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ دَلَالَةٌ على أَنَّهُ ما كان يُسَلِّمُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لو كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بين الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ في باب الصَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فصلى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ كما في صِفَةِ التَّتَابُعِ في باب الصَّوْمِ ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ وَالْمَعْنَى فيه ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ على الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَلَّمَ أَيْ فَتَشَهَّدَ لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فيها من الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فيها من التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَحَمْلُهُ على هذا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالتَّسْلِيمُ ليس بِوَاجِبٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو صلى أَرْبَعًا جَازَ أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عليه أَوْلَى فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَتُؤَدَّى على وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ من الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ وَلَا كَلَامَ فيه وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كان وَحْدَهُ والله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ ما يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ فَالْمَكْرُوهُ منه نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا في النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ على الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وفي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فصل بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا وَإِنْ شِئْت سِتًّا ولم يَزِدْ عليه وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ على الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ أو إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَالثَّلَاثُ من كل وَاحِدٍ من هذه الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَانِ من ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هذا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في الزِّيَادَةِ على الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ قال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على هذا لم تُرْوَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال بَعْضُهُمْ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال لِأَنَّ فيه وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَلَوْ زَادَ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ أو على الثَّمَانِ في اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وهو الشُّرُوعُ‏.‏

ثُمَّ اُخْتُلِفَ في أَنَّ الْأَفْضَلَ في التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ في الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى على حَسَبِ ما اُخْتُلِفَ فيه أو ‏[‏أم‏]‏ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ قال أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ وقال الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ إن طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فقال طُولُ الْقُنُوتِ أَيْ الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أم ‏[‏أمن‏]‏ من هو قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏

وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا لم يَكُنْ له وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ وَأَمَّا إذَا كان له وِرْدٌ من الْقُرْآنِ يقرأه ‏[‏يقرؤه‏]‏ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى في الْوَقْتِ وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى في غَيْرِ الْوَقْتِ أَمَّا الذي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ أَحَدُهَا ما بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ‏.‏

وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وهو احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ فَفِي هذه الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ في جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يوم الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ وفي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَسَوَاءٌ كان تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ له أو تَطَوُّعًا له سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ وَقْتَ الزَّوَالِ يوم الْجُمُعَةِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ في هذه الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ احْتَجَّ أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يوم الْجُمُعَةِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فيها وَأَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حتى تَرْتَفِعَ وإذا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ وَعِنْدَ الزَّوَالِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وقال لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَرَوَى الصالحي ‏[‏الصنابحي‏]‏ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقال إنَّهَا تَطْلُعُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا في عَيْنِ من يَعْبُدُهَا حتى يَسْجُدَ لها فإذا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فإذا كانت عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا فإذا مَالَتْ فَارَقَهَا فإذا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فإذا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا في هذه الْأَوْقَاتِ فَالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ من غَيْرِ فصل فَهُوَ على الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ وَنَبَّهَ على مَعْنَى النَّهْيِ وهو طُلُوعُ الشَّمْسِ بين قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك لِأَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَيَسْجُدُونَ لها عِنْدَ الطُّلُوعِ تَحِيَّةً لها وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا وَعِنْدَ الْغُرُوبِ وَدَاعًا لها فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بين قَرْنَيْهِ لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نحو الشَّمْسِ له فَنَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التشبه ‏[‏التشبيه‏]‏ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ وما رُوِيَ من النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بها وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ التي يُكْرَهُ فيها التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى في غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا ما بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وما بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وما بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ في هذه الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ المبتدأ مَكْرُوهٌ فيها‏.‏

وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الذي له سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا دخل أحدكم الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ من غَيْرِ فصل وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى بَعْدَ الْعَصْرِ وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى صلاة الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فقال عَزَمْت على من أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فلم يَقُمْ أحد فقال جَرِيرُ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيُّ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لو تَوَضَّأْنَا جميعا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ فَاسْتَحْسَنَ ذلك عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وقال له كُنْت سَيِّدًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا في الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لم يُحْدِثْ كانت نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ في هذه الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حتى تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَهُوَ على الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ولم يُصَلِّ حتى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ ما طَلَعَتْ الشَّمْسُ وقال رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كان أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الفجر ‏[‏الشمس‏]‏ جَائِزًا من غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كان النبي صلى الله عليه وسلم مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عليه ما رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى بَعْدَ الْعَصْرِ فقال إنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ ونحن نَفْعَلُ ما أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ في مَوْضِعِ الْخُصُوصِ أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عن ذلك فقال شَغَلَنِي وَفْدٌ عن رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فقالت وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فقال لَا أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عليه السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ‏.‏

وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وما روى عن عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ على أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ المكروه ‏[‏المكر‏]‏ لِمِثْلِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في هذه الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى في الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ وهو إخْرَاجُ ما بَقِيَ من الْوَقْتِ عن كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ في حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الذي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ من النَّذْرِ وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الذي أَفْسَدَهُ في هذه الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو نَفْلٌ في نَفْسِهِ وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عن الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا في نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ في هذه الْأَوْقَاتِ وَمِنْهَا ما بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فيه النَّفَلُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ فيه تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهَا ما بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ في الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ ما أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ في ذلك الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ كما تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا في سُنَّةِ الْفَجْرِ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في السُّنَنِ وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يوم الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فيه الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَمِنْهَا ما بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يوم الْجُمُعَةِ قبل أَنْ يَشْتَغِلَ بها وما بَعْدَ فَرَاغِهِ منها قبل أَنْ يَشْرَعَ في الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيه وَالْكَلَامُ وَجَمِيعُ ما يُكْرَهُ في حَالَةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيها في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَمِنْهَا ما قبل صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيه لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَتَطَوَّعْ قبل الْعِيدَيْنِ مع شِدَّةِ حِرْصِهِ على الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَوَجَدَ الناس يُصَلُّونَ فقال إنَّهُ لم يَكُنْ قبل الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ له أَلَا تَنْهَاهُمْ فقال لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صلى‏}‏ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ الناس عن الصَّلَاةِ قبل الْعِيدِ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ وفي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تأخيرها ‏[‏تأخير‏]‏ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ في بَيْتِهِ يَقَعُ في وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ من أَصْحَابِنَا إنَّمَا يُكْرَهُ ذلك في الْمُصَلَّى كيلا يَشْتَبِهَ على الناس أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَأَمَّا في بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا على أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ لَا في الْمُصَلَّى وَلَا في بَيْتِهِ فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ في هذا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه فَنَقُولُ إنَّهُ يُفَارِقُهُ في أَشْيَاءَ منها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مع الْقُدْرَةِ على الْقِيَامِ وَلَا يَجُوزُ ذلك في الْفَرْضِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عليه إدَامَةُ هذا الْخَيْرِ فَأَمَّا الْفَرْضُ فإنه يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَكُونُ في إلْزَامِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه حَرَجٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مع الْقُدْرَةِ على الْقِيَامِ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي قَاعِدًا فإذا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قام فَقَرَأَ آيَاتٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ وَكَذَا لو افْتَتَحَ الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ من غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى اسْتِحْسَانًا‏.‏

وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى لَا يَجُوزُ وهو الْقِيَاسُ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ له الْقُعُودُ من غَيْرِ عُذْرٍ فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وهو مُخَيَّرٌ بين الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ في الِابْتِدَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ إنَّ الشُّرُوعَ ليس بِمُلْزِمٍ وَضْعًا وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ ما انْعَقَدَ عِبَادَةً عن الْبُطْلَانِ وما انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً بِوُجُودِ أَصْلِ ما بَقِيَ من الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ ما بَقِيَ فإن التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ في الْجُمْلَةِ فلم يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ لُزُومَ ما بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ من رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عن الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فإنه مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فإذا أَوْجَبَ مع الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ حتى لو أَطْلَقَ النَّذْرَ لَا رِوَايَةَ فيه فَقِيلَ أنه على هذا الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الشُّرُوعِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لم يَتَنَاوَلْ الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عليه كَالتَّتَابُعِ في باب الصَّوْمِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ قَائِمًا لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَيُعْتَبَرُ ما أَوْجَبَهُ على نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عليه مُطْلَقًا وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا من عُذْرٍ فكذا ههنا وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ مُوجِبًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ في حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ على ما مَرَّ ولو افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حتى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ أو نَحْوُهَا قام فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كان يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ انْتَقَلَ من الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك جَائِزٌ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ومنها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ على الدَّابَّةِ مع الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ على الدَّابَّةِ مع الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ في التَّطَوُّعِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ وَالْمَفْرُوضُ من الْقِرَاءَةِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ من الْمَكْتُوبَاتِ في رَكْعَتَيْنِ منها فَقَطْ حتى لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ من الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا في الشَّفْعِ الثَّانِي أو يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وقد روى عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ مَوْقُوفًا عليهم وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا قال مُحَمَّدٌ تَأْوِيلُهُ لَا يصلي بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا من التَّطَوُّعِ على هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ في الْقِرَاءَةِ أَيْ رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ أَرْبَعًا من التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ في رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ في رَكْعَتَيْنِ وَالنَّهْيُ عن الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَكَانَ هذا أمرا ‏[‏أمر‏]‏ بِالْقِرَاءَةِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا في التَّطَوُّعِ وَلَا يُحْمَلُ على الْمُمَاثَلَةِ في أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالظُّهْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ‏.‏

وَتَأْوِيلُ أبي يُوسُفَ أَيْ لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ لِأَنَّهُ في بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كانت الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ من الْغَدِ لِوَقْتِهَا فَنَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وَمِصْدَاقُ هذا التَّأْوِيلِ ما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أو اسْتَيْقَظَ من الْغَدِ لِوَقْتِهَا ثُمَّ نُسِخَ هذا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا وَيُمْكِنُ حَمْلُ الحديث على النَّهْيِ عن قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ فَسَادٍ فيه بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الحديث على هذا التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ وَالنَّهْيَ عن اتِّبَاعِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ على النَّهْيِ عن تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ في مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَعَلَى هذا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لنا على الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَالله أعلم‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ في الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حتى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا وفي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ على ما مَرَّ وَلَوْ قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يَقْعُدَ سَاهِيًا في الْفَرْضِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لم يُعِدْ وَإِنْ لم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَأَمَّا في التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ ولم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا أَنَّهُ يَعُودُ ولم يذكر أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هل يَعُودُ أَمْ لَا قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ وَبَعْضُهُمْ قال يَعُودُ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَلَوْ كان نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ من الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يَقْعُدَ فَيَعُودُ هَهُنَا بِلَا خِلَافٍ بين مَشَايِخِنَا لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ في التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا في قِيَامِ رَمَضَانَ وفي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أو سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صَلَاةُ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ أَفْضَلُ من صَلَاتِهِ في مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ في بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ» وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أو الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً في التَّرَاوِيحِ بِفِعْلِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلى وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّرَاوِيحَ في الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ وَصَلَّى الناس بِصَلَاتِهِ وَعُمَرُ رضي اللَّهُ عنه في خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ الناس على قارىء ‏[‏قارئ‏]‏ وَاحِدٍ فلم يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ على أُبَيِّ بن كَعْبٍ وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مؤقت بِوَقْتٍ خَاصٍّ وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ في أَيِّ وَقْتٍ كان على أَيِّ مِقْدَارٍ كان إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ على ما مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مؤقت بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على قَدْرِهِ وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ على ما مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ في مَوْضِعِهِ وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حتى لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لم يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ وَلَوْ كان في الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قبل وَقْتِهِ وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَلِأَنَّهُ لو تَذَكَّرَ فَائِتَةً عليه في صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا فإذا تَذَكَّرَ في التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كان أَوْلَى وَالله أعلم‏.‏

فصل صَلَاةِ الْجِنَازَةِ

وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ في الْجَنَائِزِ يَقَعُ في الْأَصْلِ في سِتَّةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالثَّانِي في تَكْفِينِهِ وَالثَّالِثُ في حَمْلِ جِنَازَتِهِ وَالرَّابِعُ في الصَّلَاةِ عليه وَالْخَامِسُ في دَفْنِهِ وَالسَّادِسُ في الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذلك نَبْدَأُ بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وما يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كما يُوَجَّهُ في الْقَبْرِ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كما يُضْجَعُ الْمَيِّتُ في اللَّحْدِ وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ من الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا لِقُرْبِهِ من الْمَوْتِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏}‏ وإذا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ لِأَنَّهُ لو تُرِكَ كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ في نَظَرِ الناس كَالْمُثْلَةِ وقد رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ دخل على أبي سَلَمَةَ وقد شُقَّ بَصَرُهُ نغمضه ‏[‏فغمضه‏]‏ وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ الناس بِمَوْتِهِ من أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عليه وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال في الْمِسْكِينَةِ التي كانت في نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي وَلِأَنَّ في الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا على الطَّاعَةِ وَحَثًّا على الِاسْتِعْدَادِ لها فَيَكُونُ من باب الْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالتَّسَبُّبِ إلَى الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عليه وقد قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ في الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ لِأَنَّ ذلك يُشْبِهُ عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ في جِهَازِهِ لِمَا رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ نَدَبَ النبي صلى الله عليه وسلم إلَى التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ‏.‏

فصل في الْغُسْلِ

وَالْكَلَامُ في الْغُسْلِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ من يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قالت لِوَلَدِهِ هذه سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ في مَعْنَى الْوَاجِبِ وَكَذَا الناس تَوَارَثُوا ذلك من لَدُنْ آدَمَ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على وُجُوبِهِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فيه عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا ذَكَرَ محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ في أَجْزَائِهِ كَرَامَةً له لِأَنَّهُ لو تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ التي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حتى رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لو وَقَعَ في الْبِئْرِ قبل الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لم يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عن سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ وَالْبَدَنُ في حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ في كل وَقْتٍ حتى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عن شَهْوَةٍ لَمَّا كان لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لم يُكْتَفَ فيه إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فيه من الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كما يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ التي لها دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا لو وَقَعَ في الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً له فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ في الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ في الْجُمْلَةِ وهو الْغُسْلُ لَا في الْمَنْعِ من حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ الْكَرَامَةُ في امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا وَقَوْلُ الْعَامَّةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ فيه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ ما له أَثَرٌ في التَّطْهِيرِ في الْجُمْلَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا في الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ من مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مع وُجُودِ السَّبَبِ‏.‏

فصل بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْغُسْل

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْوَاجِبُ هو الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حتى لو اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ أو غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ في مَاءٍ جَارٍ جَازَ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ كما ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كما في غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فيه كَرَامَةً له على ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يجزىء عن الْغُسْلِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ ولم يُوجَدْ وَلَوْ غَرِقَ في الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كان الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ كما يُحَرَّكُ الشَّيْءُ قي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ غُسِّلَ في قَمِيصِهِ وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْغُسْلِ هو التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ بِالْغُسَالَاتِ التي تَنَجَّسَتْ بِمَا عليه من النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ وحصوله بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا غُسْلُ النبي صلى الله عليه وسلم في قَمِيصِهِ فَقَدْ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ عز وجل السِّنَةَ عليهم فما فِيهِمْ أَحَدٌ إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ على صَدْرِهِ حتى نُودُوا من نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا نَبِيَّكُمْ وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ لنا في خَصَائِصِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّجْرِيدِ هو التَّطْهِيرُ وَأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان طَاهِرًا حتى قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه حين تَوَلَّى غُسْلَهُ طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا وَيُوضَعُ على التَّخْتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا بِالْوَضْعِ عليه لِأَنَّهُ لو غُسِّلَ على الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أو عَرْضًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا من اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كما يَفْعَلُ في مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ وَمِنْهُمْ من اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كما يُوضَعُ في قَبْرِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كما تَيَسَّرَ لِأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عليه ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وهو حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ من باب الِاحْتِرَامِ وروى ‏[‏وقد‏]‏ الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كما يَفْعَلُهُ في حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عليهم غَسْلُ ما تَحْتَ الْإِزَارِ ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً ما بين السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ في الْأَصْلِ حَيْثُ قال وَتُطْرَحُ على عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عن أبي ‏[‏أبو‏]‏ عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا في نَوَادِرِهِ ثُمَّ تُغَسَّلُ عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ على يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا ذَكَرَ الْبَلْخِيّ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ النَّظَرِ فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هل يستنجي أَمْ لَا وَذُكِرَ في صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يستنجي وَعَلَى قولهما ‏[‏قول‏]‏ لَا يستنجي هو ‏[‏هما‏]‏ يقول ‏[‏يقولان‏]‏ قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا بُدَّ من إزَالَتِهَا وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ إنَّ الْمُسْكَةَ تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ فَكَانَ السَّبِيلُ فيه هو التَّرْكُ وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَالله أعلم‏.‏لم يَذْكُرْهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا رُجُوعَ أبي حَنِيفَةَ حَيْثُ لم يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ منها وَلِأَنَّ هذا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ لِأَنَّ الْغُسْلَ في الْمَوْضِعَيْنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ الْمَيِّتُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ لِأَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ في الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ من الْفَمِ إلَّا بِالْكَبِّ وَذَا مثلة مع أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ منه شَيْءٌ لو فُعِلَ ذلك بِهِ وَكَذَا الْمَاءُ لَا يَدْخُلُ الْخَيَاشِيمَ إلَّا بِالْجَذْبِ بِالنَّفَسِ وَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ من الْمَيِّتِ‏.‏

وَلَوْ كُلِّفَ الْغَاسِلُ ذلك لَوَقَعَ في الْحَرَجِ وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُسَالَةُ تَجْتَمِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَلَا تَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ على التَّخْتِ فلم يَكُنْ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا وَكَذَا لَا يُمْسَحُ رَأْسُهُ وَيُمْسَحُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَسْحَ هُنَاكَ سُنَّ تَعَبُّدًا لَا تَطْهِيرًا وَهَهُنَا لو سُنَّ لَسُنَّ تَطْهِيرًا لَا تَعَبُّدًا وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ ثُمَّ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِأَنَّ ذلك أَبْلَغُ في التَّنْظِيفِ فَإِنْ لم يَكُنْ فَبِالصَّابُونِ وما أَشْبَهَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ فَيَكْفِيهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ وَلَا يُسَرَّحُ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ أنها رَأَتْ قَوْمًا يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فقالت عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ أَيْ تُسَرِّحُونَ شَعْرَهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عنها ولم يُرْوَ عن غَيْرِهَا خِلَافُ ذلك فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ لو سُرِّحَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِهَذَا لَا تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَشَارِبُهُ وَلِحْيَتُهُ وَلَا يُخْتَنُ وَلَا يُنْتَفُ إبْطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ وَلِأَنَّ ذلك يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ وَالْمَيِّتُ ليس بِمَحَلِّ الزِّينَةِ وَلِهَذَا لَا يُزَالُ عنه شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان فيه حُصُولُ زِينَةٍ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسَرَّحُ وَيُزَالُ عنه شَعْرُ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ إذَا كَانَا طَوِيلَيْنِ وَشَعْرُ الرَّأْسِ يُزَالُ إنْ كان يَتَزَيَّنُ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَلَا يُحْلَقُ في حَقِّ من كان لَا يَحْلِقُ في حَالِ الْحَيَاةِ وكان يَتَزَيَّنُ بِالشَّعْرِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ ما تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ ثُمَّ هذه الْأَشْيَاءُ تُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ فَكَذَا بِالْمَيِّتِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ وَذَكَرْنَا من الْمَعْقُولِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما رَوَاهُ يَنْصَرِفُ إلَى زِينَةٍ ليس فيها إزَالَةُ شَيْءٍ من أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالطِّيبِ وَالتَّنْظِيفِ من الدَّرَنِ وَنَحْوِ ذلك بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَحْصُلَ الْبِدَايَةُ بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ على ما مَرَّ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قد خَلَصَ إلَى ما يَلِي التَّخْتَ منه ثُمَّ قد كان أُمِرَ الْغَاسِلُ قبل ذلك أَنْ يَغْلِيَ الْمَاءَ بِالسِّدْرِ فَإِنْ لم يَكُنْ سِدْرٌ فَحُرْضٌ فَإِنْ لم يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِمَاءِ السِّدْرِ أو الْحُرْضِ أو الْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قد وَصَلَ إلَى ما يَلِي التَّخْتَ منه ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَى صَدْرِهِ أو يَدِهِ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا حتى إنْ بَقِيَ شَيْءٌ عِنْدَ الْمَخْرَجِ يَسِيلُ منه هَكَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أن يُقْعِدُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ ذلك وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قد يَكُونُ في بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ حتى لو سَالَ منه شَيْءٌ يَغْسِلْهُ بَعْدَ ذلك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ قد يَكُونُ في بَطْنِهِ نَجَاسَةٌ مُنْعَقِدَةٌ لَا تَخْرُجُ بِالْمَسْحِ قبل الْغُسْلِ وَتَخْرُجُ بَعْد ما غُسِّلَ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمرَّتَيْنِ أَوْلَى‏.‏

وَالْأَصْلُ في الْمَسْحِ ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَوَلَّى غُسْلَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بن الْعَبَّاسِ وَصَالِحُ مولى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٌّ أَسْنَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى نَفْسِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا فلم يَخْرُجْ منه شَيْءٌ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ بَطْنَهُ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ في الْبَيْتِ ثُمَّ إذَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ منه شَيْءٌ يَمْسَحْهُ كيلا يَتَلَوَّثَ الْكَفَنُ وَيَغْسِلُ ذلك الْمَوْضِعَ تَطْهِيرًا له عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سِوَى الْمَسْحِ وَلَا يُعِيدُ الْغُسْلَ وَلَا الْوُضُوءَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُعِيدُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ من خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ هو لم يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَهَا الْخَارِجُ مع أَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ أَوْلَى ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يُنَقِّيَهُ لِيَتِمَّ عَدَدُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال للاتي ‏[‏للائي‏]‏ غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أو خَمْسًا أو سَبْعًا وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هو الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ في الْغُسْلِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ في الْمَرَّةِ الْأُولَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِيَبْتَلَّ الدَّرَنُ وَالنَّجَاسَةُ ثُمَّ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِمَاءِ السِّدْرِ أو ما يَجْرِي مَجْرَاهُ في التَّنْظِيفِ لِأَنَّ ذلك أَبْلَغُ في التَّطْهِيرِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ ثُمَّ في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَشَيْءٍ من الْكَافُورِ وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ اسْتِرْخَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُغَسِّلُهُ لِيَسْتَرْخِيَ فَيَزُولَ عنه ما عليه من الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ ثُمَّ يُنَشِّفُهُ في ثَوْبٍ كيلا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ كما يُفْعَلُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ في الْغُسْلِ حُكْمُ الرَّجُلِ وَكَذَا الصَّبِيُّ في الْغُسْلِ كَالْبَالِغِ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عليه وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ يُصَلَّى عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كان لَا يَعْقِلُ الصَّلَاةَ لَا يُوَضَّأُ عِنْدَ غُسْلِهِ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْحَيَاةِ وفي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ وُضُوءُ من لَا يَعْقِلُ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالله أعلم‏.‏